في مايو 1802، وبناءً على نصيحة طبيب العيون الألماني "يوهان آدم شميدت"، ذهب عملاق الموسيقى الكلاسيكية "لودفيج فان بيتهوفن" إلى مدينة "هايليجنشتات" الألمانية من أجل الراحة؛ إذ كان يُعاني وقتها من حالة نفسية سيئة للغاية كشفت عنها رسالة كتبها في صورة وصية في السادس من أكتوبر من العام نفسه.

وضع "بيتهوفن" الرسالة -التي عُرفت لاحقًا باسم ""- في دفتر الأوراق، وعُثر عليها عقب وفاته.

في تلك الرسالة، تحدث "بيتهوفن" عن ضعف سمعه وقسوة المشاعر التي تنتابه بسبب ذلك المرض، كما تحدث عن رغبته في الانتحار بسبب وصوله إلى حافة اليأس، وعن الفن الذي ساعده في تجاوُز تلك المشاعر، كما صرح بألمه وتحمُّله لما وصفه بـ"الوجود البائس" كي يؤدي مهمته المتمثلة في توصيل ما يشعر به في صورة نغمات، ثم أوصى أخاه -كارل- بضرورة التعاون مع طبيبه -شميدت- بعد وفاته للمساعدة في دراسة فقدان السمع؛ "حتى يتصالح العالم معه بعد موته".

بعد كتابة الرسالة، استمر "بيتهوفن" في العمل في مجال تأليف الموسيقى الكلاسيكية لمدة اقتربت من ربع قرن، وحين مات، نُشرت وصيته على نطاقٍ واسع، والآن -وبعد نحو قرنين من الزمان- لبى باحثون نداء "بيتهوفن"، ونفذوا وصيته بعد أن أجروا تسلسلًا لحمض "بيتهوفن" النووي المحفوظ في خصلات شعر الموسيقار العبقري التي عُثر عليها مع العديد من المعجبين.

لا يزال "لودفيج فان بيتهوفن" من بين مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية الأكثر نفوذًا وشعبية، وخلال حياته، أثرت المشكلات الصحية تأثيرًا كبيرًا على مهنته كملحن وعازف بيانو، وشملت تلك المشكلات فقدان السمع التدريجي، والشكاوى المعدية المعوية المتكررة وأمراض الكبد.

ومنذ وفاته، انتشرت العديد من الفرضيات حول حقيقة وضعه الصحي وأسباب إصابته بالأمراض، بما في ذلك العديد من الحالات الموروثة.

تحليل الجينوم

في الجديدة، أجرى الباحثون ما يُعرف بـ"تحليل جينوم" لبيتهوفن من أجل توضيح الأسباب الوراثية والمعدية الكامنة المحتملة لأمراضه.

في البداية، أدخل الباحثون تحسيناتٍ في طرق جمع الحمض النووي من عينات الشعر القديمة، ما مكَّنهم من إجراء تسلسل جينومي دقيق للغاية من كميات صغيرة من الشعر التاريخي؛ إذ قام الباحثون بتحليل ثماني خصلات شعر من مصادر مستقلة تُعزى إلى بيتهوفن.

ومن المعروف أن المرض الرئيسي في حياة بيتهوفن هو فقدان السمع الذي بدأ في منتصف العشرينيات من عمره، كما عانى أيضًا من أعراض لأمراض الجهاز الهضمي ونوبات ""، وكشف تشريح الجثة عن إصابته بتليف الكبد والتهاب البنكرياس وتورم الطحال، ويُعتقد أن وفاته عن عمر ناهز 56 جاءت بسبب أمراض الكبد الناجمة عن الإفراط في شرب الكحوليات أو سبب آخر.

في الدراسة الجديدة، لم يكتشف العلماء الذين يدرسون حمضه النووي تفسيرًا واضحًا لصمَم بيتهوفن، لكنهم حددوا عوامل خطر جينية لأمراض الكبد، ووجدوا علامات على إصابته بـ"التهاب الكبد من النوع ب"، الذي يمكن أن يكون قد أسهم في تليف الكبد.

عينات محدودة

يقول "يوهانس كراوس"، الباحث بمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية، والمؤلف الأول لتلك الدراسة: إن تلك الدراسة تكشف قوة التقنيات الحالية في البحث عن أصول الأمراض الوراثية.

ويؤكد "كراوس" -في تصريحات خلال مؤتمر صحفي حضرته "للعلم"- أنه "يمكن للعينات المحدودة أن تكشف الكثير عن الأمراض التي أصابت الأشخاص في الماضي، والأهم أنها قادرة على حسم الجدل حول وفاة الأشخاص في كثير من الأحيان".

على الرغم من أن بيتهوفن عاش أكثر من الدكتور شميدت بنحو 18 عامًا، فقد حاول كُتَّاب السيرة الطبية منذ ذلك الحين تحديد الأسباب الأكثر احتماليةً للشكاوى الصحية المختلفة لبيتهوفن.

واعتمد هذا البحث اعتمادًا أساسيًّا على مصادر وثائقية، تتضمن رسائل بيتهوفن، ومذكراته، وكتابات من معاصري بيتهوفن، بما في ذلك ملحوظات الأطباء، وتقرير تشريح الجثة، وأوصاف الهيكل العظمي بعد استخراج الجثة في عامي 1863 و1888، بالإضافة إلى تحليلات أُجريت على أنسجة يُزعم أنها لبيتهوفن، بما في ذلك التحليلات السمية لخصل شعر مجهولة المصدر والفحوص الباثولوجية والسمية لشظايا من الجمجمة.

تشهد هذه المصادر على عدد من الشكاوى الصحية المتفاوتة في شدتها وتأثيرها على حياة بيتهوفن ومسيرته المهنية، مثل فقدان السمع، ومشكلات الجهاز الهضمي المزمنة، ومشكلات الكبد التي ظهرت قرب نهاية حياته.

مشكلات متعددة

بدأت معاناة بيتهوفن من فقدان السمع في الفترة ما بين منتصف العشرينيات من عمره إلى أواخرها، وظهرت الأعراض في البداية بطنين الأذن، وفقدان ترددات النغمات العالية، وكاد أن ينهي مسيرته كفنان بحلول منتصف الأربعينيات من عمره.

ولمدة لا تقل عن 22 عامًا، عانى بيتهوفن من شكاوى منهكة في البطن استمرت طوال حياته البالغة، ظهرت في المقام الأول بآلام في البطن ونوبات من الإسهال لفترات طويلة في كثير من الأحيان.

وفي صيف عام 1821، بدأ بيتهوفن في إظهار أعراض أمراض الكبد عندما ظهرت عليه نوبتان من نوبات اليرقان، وبلغت ذروتها بوفاته، والتي سببها على الأرجح تليُّف الكبد.

وتشير الأدلة السابقة إلى أن بيتهوفن كان يستهلك بشكل منتظم كميات معتدلة إلى كبيرة من الكحول، وقد قال بعض كتاب السيرة الطبية إن بيتهوفن كان مدمنًا للكحول، وهو عامل خطر معروف لتليف الكبد، في حين أصر العديد من معاصري بيتهوفن على أنه كان يستهلك الكحول باعتدال، لكن صديقًا مُقربًا من بيتهوفن قال إنه يستهلك على الأقل لترًا من النبيذ مع الغداء كل يوم.

تسلسل الجينوم الكامل

على الرغم من أنه لا يُعرف على وجه اليقين سوى القليل عن التاريخ الطبي لعائلة بيتهوفن المباشرة، فإن بعض المصادر يشير إلى التاريخ العائلي للإدمان على الكحول وأمراض الكبد، كما أظهر بيتهوفن أيضًا أعراضًا أخرى خلال حياته، جسدية وربما نفسية أيضًا.

لذا سعى الباحثون إلى إجراء تسلسل الجينوم الكامل لبيتهوفن من أجل الوقوف على حقيقة المرض الذي أدى إلى وفاته.

وأتاحت شهرة بيتهوفن خلال حياته فرصةً للباحثين؛ إذ كان الوصول إلى العديد من مصادر الحمض النووي المفترض سهلة، فقد حصل الأصدقاء والمعجبون على خصلات شعره كتذكار، وأمكن الحفاظ على العديد من خصل شعر "بيتهوفن" على مر السنين من قِبل جامعي المتاحف والمتاحف الخاصة.

لكن أولًا، كان عليهم إثبات أن الشعر جاء من بيتهوفن، وهو إنجاز جعله الملحن نفسه أكثر صعوبة، ففي السنة التي سبقت وفاة بيتهوفن، أرادت زوجة صديق "بيتهوفن" بعضًا من خصلات شعره، لكنها أصبحت ضحيةً لمزحة؛ فقد أرسل بيتهوفن وسكرتيره قصاصة خشنة من لحية الماعز تشبه في الملمس واللون تجعيد الشعر الخاص به.

شعرت السيدة بسعادة غامرة لامتلاك تلك الخصلة، وعرضتها بفخر على جميع معارفها، ولكن عندما كانت سعادتها في أوجها، أخبرها شخصٌ بالمزحة، وعندما علم بيتهوفن بحزن السيدة، أرسل خصلةً من شعره تُعرف اليوم باسم ""، كانت إحدى العينات التي درسها الباحثون.

خصلات الشعر

استخرج الباحثون الحمض النووي من خيوط قصيرة من الشعر مأخوذة من ثماني خصلات، وقد تطابقت خمس عينات من التسلسل الجينومي لذكر ذي أصول أوروبية وتتوافق بنسبة 99٪ بشكل وثيق مع السكان المرتبطين بمنطقة شمال الراين-وستفاليا في ألمانيا، وهي علامة قوية على أنها جاءت من بيتهوفن.

لكن بسبب تدهور الحمض النووي في خيوط الشعر، تمكن العلماء من إعادة بناء حوالي ثلثي جينوم بيتهوفن فقط، وعندما بحثوا عن الحمض النووي للبحث عن أسباب وراثية بحتة للمرض، لم يعثروا على أيٍّ منها.

إلا أنهم استخدموا ""، التي تفحص مخاطر الأمراض التي قد يكون لها إسهام وراثي، ولكن يمكن أن يكون لها أيضًا أسباب بيئية، ليكتشفوا دليلًا على ميل وراثي إلى الإصابة بأمراض الكبد.

ولم يعثر الباحثون أيضًا على أي إشارات واضحة لخطر الإصابة بفقدان السمع أو أمراض الجهاز الهضمي.

وخلص العلماء إلى أن ارتفاع مخاطره الوراثية، إلى جانب استهلاك الكحول و"التهاب الكبد بي"، ربما يفسر مرض الكبد الذي من المحتمل أن يكون قد أسهم في وفاته.

أجداد بيتهوفن

كما أسفر التحليل أيضًا عن مفاجأة؛ إذ لم يتطابق كروموسوم بيتهوفن Y مع الكروموسوم من الأقارب الأحياء، وكان الجد المشترك هو "أرت فان بيتهوفن"، الذي عاش في القرن السادس عشر، وفي مكانٍ ما في الأجيال السبعة بين "آرت" و"لودفيج فان بيتهوفن" كان لدى امرأة في شجرة العائلة طفل مع رجل مجهول، ويبدو أن بيتهوفن من نسل هذه العلاقة غير الشرعية.

من جهته، يقول "محمد جاب الله"، خبير الطب الشرعي وعضو الجمعية اليابانية للطب الشرعي، وغير المشارك في الدراسة: إن هذا يعني أن "أجداد بيتهوفن ربما وُلدوا من علاقات خارج إطار الزواج".

ولم يجد الفريق أثرًا للتسمم بالرصاص في خصلات شعر الموسيقار العظيم، وهذا يعني أن فرضية المرض المؤدي إلى الوفاة من جرَّاء التسمم بالرصاص ليست صحيحة.

ويصف "جاب الله" البحث بـ"الممتاز"؛ إذ اعتمد على "تقنيات عالية الجودة والدقة"، إلا أنه يعود ليؤكد أن معظم الاستنتاجات اعتمدت "على فرضية الاستبعاد والترجيح"، واستعان بـ"المعلومات التاريخية وشهادة الشهود لترجيح فرضية على أخرى"، وبالتالي فإن "معظم النتائج المنشورة هي مزيج من تحليل علمي يرجح فرضية واعتماد على قرائن تاريخية غير مؤكدة"، وفق قوله.